راتب شعبو/ كاتب

الإعلام المزدوج للنظام السوري

نُشرت بتاريخ 11/05/2013 في جريد النهار اللبنانية
في ثمانينات القرن الماضي كان النظام السوري منخرطاً في مواجهة أمنية عسكرية مع الإخوان المسلمين، وكان إعلامه يصم الآذان في كلامه عن الرجعية وعملائها وعن الامبريالية وأذنابها. وفي الوقت نفسه كان النظاميعمل بدأب وحزم، وتحت غبار معركته المفتوحة مع الإخوان المسلمين حينئذ، على استئصال كل قوة سياسية مستقلة، أكان يمكن إدراجها ضمن القوى الرجعية والامبريالية أم لا، أكانت يمينية أم يسارية، سلمية أم عنيفة، إسلامية أم علمانية، لا يهم، المهم أنها قوة مستقلة عن النظام، لم ينشئها النظام أو لم يتمكن من وضعها تحت إبطه بحيث تصبح طوع بنانه.
ودائماً كان للنظام السوري إعلامان لتغطية هذا السلوك: إعلام ظاهر وإعلام باطن. إعلام يتوجه به إلى العالم وإلى عموم الشعب السوري، وآخر يتوجه به إلى أنصاره وخاصته. الإعلام الأول وسيلته الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون وخطابات المسؤولين أمام الناس. والإعلام الثاني وسيلته جهاز الحزب والمنظمات التابعة له والإشاعات والجلسات الخاصة وكلام المسؤولين أمام الدوائر الضيقة من المحظيين. مثلاً في الإعلام الرسمي الظاهر يكون الاتحاد السوفياتي صديقاً وفياً، وفي الإعلام الأسود أو إعلام الباطن، يكون الاتحاد السوفياتي متخاذلاً ولا يقدم لنا الأسلحة التي تجعلنا ننتصر. في الإعلام الرسمي تكون أحداث الإخوان في الثمانينات هجمة امبريالية رجعية تبرر ضرب حاملها الداخلي وهم الإسلاميون، وفي الإعلام الباطن يكون الشيوعيون أكثر خطراً من الإخوان بما يوجب ضربهم واستئصال شأفتهم. طبعاً المقصود هنا الشيوعيين المستقلين عن النظام والخارجين عن إرادته التي لا يرتاح حتى يفرضها حتى على الأطفال.
وما ينظم سياسة النظام الأمنية هو الإعلام الأسود الباطن وليس الإعلام الرسمي الظاهر. فحين يمكن أن يسبب تعارض هذين الإعلامين إعاقةً في التنفيذ العملي للسياسة الأمنية يكون الحل بالمزيد من الكذب. مثلاً حين كانت تتم مداهمة بيت أحد أعضاء حزب العمل الشيوعي في سوريا أو الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي (وهما الحزبان الشيوعيان اللذان تعرضا لعنف قمعي رهيب خلال فترة صراع النظام مع “الهجمة الرجعية الامبريالية”) كان يُعبأ أفراد مجموعة المداهمة بمعلومات كاذبة عن الشخص تفيد بأنه مسلح، أو، أكثر من ذلك، تفيد بأنه من الإخوان. الهدف هو ضرب أدنى تعاطف يمكن أن ينشأ في دخيلة عنصر الأمن (والكثير منهم مجندون وليسوا متطوعين) تجاه اعتقال شخص شيوعي (غير رجعي) ومسالم (غير مسلح)، ولا ينبغي بالتالي اعتقاله بحسب الإعلام الظاهر.
اليوم تتكرر على مستوى أشد وأقسى حكاية الإعلام المزدوج. الإعلام الظاهر يتحدث عن جماعات أو عصابات مسلحة تخرب وتروع وتوقظ الفتنة ويجب قمعها وتطهير البلاد منها، ويجري الحديث في الوقت نفسه عن معارضة وطنية سلمية لها احترامها وحقها وحريتها. أما في الإعلام الباطن فيقال إن المثقف أخطر من حامل السلاح، وإن الكلمة الناقدة للنظام تشكل تغطية للرصاصة القاتلة. وتدأب أجهزة الأمن على اعتقال المثقف الذي يعبر عن رأيه ثم يتكفل الإعلام الباطن بالكذب ونشر الإشاعات لتشويه صورة المثقف وتبرير اعتقاله. والمؤسف أن هناك مثقفين يخدمون هذه الآلة الإعلامية المزدوجة حين يروجون، دون أي حس نقدي ودون أي حس بالمسؤولية، شائعات مختلقة بحق مثقفين سوريين لمجرد كونهم معارضين.
بكل بساطة يتحول مثقف معارض، عاش بؤس أن يكون الشخص معارضاً في ظل الاستبداد، إلى شخص انتهازي وعميل يبيع ذمته بالدولار، وذلك على لسان مثقفين نافقوا وانتهزوا وخبروا جيداً أروقة الأجهزة ونكهات قهوتها ولذة تسهيلاتها. إعلام مزدوج لا يجعل الإنسان السوري يستقر على يقين، أعلام يزرع الشكوك بين أبناء الوطن الواحد وينسف روابطهم المشتركة في كل مكان.

 

Archives
April 2024
M T W T F S S
« Jul    
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930