راتب شعبو/ كاتب

الرفيق عمر قشاش.. وداعاً

نشرت بتاريخ 13/03/2016 على موقع روزنة
كان اسمه قد سبقه إلي بسنوات طويلة. في طفولتي سمعت اسمه يتردد كثيراً على لسان أبي بقدر من الاحترام لا يخفى، فقد كان رفيقه في العمل النقابي قبل أن تسيطر سلطة البعث على النقابات وتحيلها إلى واحدة من وسائل الإخضاع العديدة. وكان أن ارتبط بذاك الاسم قيمة عالية في وعي الطفل الذي كنته، قبل أن يتاحلي أن ألتقي صاحب الاسم في السجن في 1984، كما يمكن للعارف بسوريا أن يتوقع. فالعارف بسوريا الثمانينات يدرك أن أمثال هذا الرجل سيكون في السجن أو مطلوبا للسجن أو منفياً خارج بلده.
حين قابلته لأول مرة في كركون الشيخ حسن في دمشق، أحسست، بطريقة غريبة، أن هذا الرجل يشبه اسمه. لا أقصد معنى الاسم، فأنا لا أعرف معنى الاسم ولا الكنية، وإن كان للاسم إيحاء بالقوة والعدل مستمدة من اسم الخليفة الراشدي الثاني، وهو الإيحاء الذي لم يخنه عمر قشاش بأي حال. كان إحساس اللحظات الأولى لرؤيتي له: لا يمكن أن يكون عمر قشاش سوى هذا الرجل الذي لا يمكن أن يكون له اسم آخر. هذا هو، إنه هذا.
بسلوكه ومواقفه وتفاصيل حياته اليومية على مدى سنوات طويلة، رسم عمر قشاش لنفسه في ذهني صورة جميلة. حين كان السجن يحيل الزمن إلى مادة لزجة تشبه الموت، كان عمر قشاش يستطيع دائماً أن يخرج من أسر القانون ويشع في عتمة أرواحنا ضياء ويقيناً. كنت كلما تأملت الرجل، وعلى مدى أكثر من عشر سنوات من الحياة السجنية المشتركة، أقول في نفسي كم يتطابق هذا الرجل مع الصورة التي رسمتها له في ذهني. قوي البنية، قوي الإيمان بقضيته، صلب كالصخرة ورقيق كالدمعة، صادق بلا تردد، صبور ومخلص بلا حد، يسعى دائماً إلى تطوير ذاته فلا يتوقف عن القراءة وتعلم اللغات، مثقف وقيادي ولكنه لا يحمل أمراض المثقفين والقادة. نشيط فتراه في أعمال (السخرة) ملتزماً أكثر من الشباب، متواضع فلا يجد أن انهماكه في أعمال الخرز لصنع لوحة، أو حفّ بذر الزيتون لصنع مسبحة، أو حفّ نوى التمر لصنع ميدالية، يخدش صورته القيادية أو بريستيجه الشخصي. بعيد عن نزعات الشللية والتحزبية، يفوح منه عطر احترام الآخرين رغم الاختلاف معهم وعنهم، وعطر الغيرية حتى الإيثار؛ لا عفونة علل الذات من أنانية وتضخم ونرجسية. أب وصديق ورفيق. تنضح عيناه إصراراً حين يتكلم عن الظلم والاستبداد، وتدمع عيناه كطفل حين يتكلم عن ابنته الدكتورة نضال التي لم تحتمل افتقاده فماتت.
مع صعود نجم الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف في 1985، وبدء عملية ما أسماه إعادة البناء (البيريسترويكا) في الاتحاد السوفييتي، استشعر عمر قشاش خطراً كان يجعله متحفظاً تجاه فرحنا وحماسنا الشديد للزعيم الشاب. قال إن هذه العملية ستنهي الاتحاد السوفياتي، القول الذي كان يبدو لنا غريباً وتشاؤمياً وغير منطقي. وفي الوقت نفسه لم يكن يدافع الرفيق الغالي عن أي انغلاق أو قداسة سوفييتية. لكنه كان كمن أدرك أن ثمة مرض يسير بصديق عزيز إلى الموت.
مرة أخرى، أدرك عمر قشاش بإحساسه النقي الذي لم تشوهه “ثقافة”، أن دخول العراق إلى  الكويت في آب 1990، كان بمثابة كارثة لا تقل عن كارثة 1967. هذا في الوقت الذي لم يكن المتحمسون لتلك الحركة العراقية قلائل. “هل أنت ضد أن يضم العراق الكويت؟” كانوا يسألونه، “لست ضد، ولكن ليس بهذه الطريقة التي ستنتهي إلى الفشل وإلى المزيد من الدمار”، كان يجيب متحسراً.
وفي الحالتين كان إحساس عمر قشاش أصدق من تحليلات المحللين ومهاراتهم اللفظية.
السلام لروحك السامية أبو عبدو، سيبقى ذكرك دائماً.
Archives
May 2024
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031