بارعاً كان؛ في الجراحة النسائية، إلى حد أنه يجري عملية استئصال الرحم، مثلاً، دون أن يعقم يديه ودون أن يرتدي مريول العمليات، وحتى دون أن يقترب من المريضة. إنه ملك الجراحة عن بعد بلا منازع. إنه خرّيج رومانيا شاوشيسكو على سن ورمح. يكفي أن تُسجَّل المريضة على اسم “الاستاذ الدكتور عصام” حتى تتم كل الترتيبات، بدءاً من حجز السرير في المشفى الجامعي وصولاً إلى العملية وما بينهما من إجراءات وعناية.
ولكن مهارته في الإدارة تكاد تتفوق على مهارته الطبية. ومن سوء الحظ أنه لا يمتلك القدرة الكافية لأن ينشطر إلى رجلين يحمل الأول موهبة طبية، ويحمل الآخر الموهبة الإدارية. وعليه فقد دعاه الوطن من مجال الجراحة لزجه في مجال الإدارة، وهكذا أصبح عميداً لكلية الطب.
المهم هو الوطن. كل شيء يهون في سبيله. تخلى الرجل عن الجراحة عن بعد، واكتفى بالراتب الذي يخصصه له الوطن. الراتب يكفي، حتى أنه كان يفكر أحياناً بأن يتخلى عن جزء من راتبه لمصلحة المُخبرين الذين نشأ بينهم وترعرع، هؤلاء الأوفياء الذين لا ينام لهم جفن وهم يرصدون أنفاس المتآمرين على الوطن وسيد الوطن.
حين يجلس وراء مكتبه، يصبح شهيقه وفاء للوطن، وزفيرة تضحية في سبيله. تجده منهمكاً في تلقي الاتصالات، يمسك أحياناً سماعتي هاتف في الوقت نفسه. كثيرة هي الأمور التي تبدأ وتنتهي على شفتيه. براعته في استخدام مفردات مثل: “معلمنا”، “مولانا”، “باشا”، “كبيرنا” ..الخ، تضاهي براعته الإدارية. وحين يعض العميد على شفته السفلى وينظر في وجه السكرتيرة بجدية وعلى وجهه علامات الإجلال، تدرك هذه أن على الطرف الآخر من الخط يربض ضابط مخابرات.
الإدارة علم، الوطن غال، المنصب مسؤولية… وخلال شهور قليلة، صارت كلية الطب شكلاً آخر. أنجز الدكتور عصام ما يمكن تسميته ثورة ثقافية على الطريقة الصينية. أخصائي الأمراض الهضمية راح يدرس الجراحة التجميلية، والدكتور البيطري أصبح رئيس قسم التشريح الوصفي، والسكرتيرة المخضرمة لعمادة الكلية صارت عاملة مخبر، وقس على هذا. غير أن أهم ما في ثورته الإدارية هو الباب المفتوح، فقد فتح باباً مباشراً على مكتبه لا يمر عبر مكتب السكرتيرة.
وكان أن ولج أحد المدرسين الجدد في الجامعة من “الباب المفتوح”، فدخل بكل ثقة على الدكتور عصام مباشرة ليشكو ضياعه في الاختصاص وعدم ثبات برنامجه التدريسي. نهض العميد واستقبل المدرس الجديد ببشاشة وأسرف في الاستقبال وتغنى بالوطن وسيد الوطن. وما إن باشر المدرس في عرض مظلمته حتى أحس بأن سيادة العميد يتحول إلى كائن آخر.
– انت مدرس عنا؟ (قالها سيادة العميد بقرف).
– أيوا استاذ. (أجاب المدرس وهو يشعر أنه وقع في ورطة لا يعرف ما هي).
– هيك بكل ثقة بتفوت من الباب؟ ما شاء الله، مدرس؟! شايفني قاعد هون منشانك ومنشان غيرك؟
– عفواً استاذ، نحنا زملاء… (تأتأ المدرس وهو محرج ومصدوم).
– زملاء؟! كيف زملاء؟ ليش اشتغلنا عمليات جراحية سوا؟ انت بتعرف شو يعني زميل؟ لازم تعرف معنى الزميل قبل ما تستخدمها معي. (قال العميد وأدار ظهره للمدرس، بما يعني الطلب بالانصراف).
خرج المدرس تشيّعه نظرات احتقار من السكرتيرة التي سرعان ما أعدت للعميد فنجان قهوة من علبة القهوة الخاصة به، وجلست تهدئ من روعه. رشف العميد قهوته ببطء وعلى وجهه علامات الشخص الذي تثقل على قلبه هموم الوطن، وقال وهو ينفث دخان سيجارته:
– العمى بقلبو على هالثقة اللي فات فيها! قسماً بالله يا تماضر فكرتو من جماعة الفرع، قلت انو جاي يجربني ويرفع فيني تقرير حول فكرة “الباب المفتوح” ومدى خدمته للوطن.