راتب شعبو/ كاتب

كيف يتحول نصف المجتمع السوري إلى خونة؟

نُشرت بتاريخ 15 يونيو 2016 على موقع هنـا صوتـك
حين يقول رئيس النظام السوري عن معارضيه إنهم “خونة”، في خطابه الأخير أمام “مجلس الشعب”، دون أن يعترض أحد من “النواب” بكلمة (وهذا من طبيعة الواقع السياسي للنظام السوري بلا شك)، نكون أمام نميمة سياسية مكتملة. الأسد يجرد “خصومه” من أي قيمة وطنية، أي يعدمهم ويهزمهم معنوياً، أمام وسط متقبّل، لكي يظهر بمظهر الوطني الذي يقارع “خونة”.
لا يجرؤ الأسد على فهم خصمه، لا يجرؤ على التفكير بسؤال بسيط: ما هو دور الأسد في جعل نصف الشعب السوري، لن نقول أكثر، “خونة”؟
كيف يتحول نصف المجتمع السوري، بعد عقود من “بناء سورية الحديثة”، ثم بعد أكثر من عقد على “التطوير والتحديث”، إلى “خونة”؟ ولمن سيقول إن الأسد يقصد فقط الحفنة التي تأتمر بأمر دول خارجية، أقول ما هي نسبة السوريين الذين يرتضون هؤلاء (على علاتهم الكثيرة)، ولا يرتضون الأسد؟ أليس خائناً من يفضل “الخائن” على “الوطني”؟
حين يقول الأسد إن معارضيه “خونة”، فإنه يفعل ذلك ليقول إنه الطرف المناقض للخيانة، إنه ممثل الوطنية وتجسيدها والناطق باسمها. تماماً كما يقصد التكفيريون أن يقولوا في ممارساتهم التكفيرية إنهم المسلمون الحق الذين يحق لهم تكفير غيرهم.
في خطابه المذكور، يذكر الأسد مراراً تعبير “الطرف الآخر”، ليستدرك لاحقاً فيقول مرتجلاً، إنه لا يوجد في الحقيقة طرف آخر، وإنه يذكر الطرف الآخر “لضرورة الشعر”. الطرف الآخر إذن إما أنه “خائن” أو “غير موجود” ببساطة. وهذا، بالفعل، غاية ما يمكن أن تصل إليه النميمة السياسية، الانتقال من تشويه الطرف الآخر إلى إعدامه.
بالمقابل، لا يكف نمامون مقابلون عن وصف مناصري الأسد بأنهم “عبيد” وأنهم يستمرئون تقبيل البوط، في تساهل ضميري يريحهم من التفكير في فهم ما يجعل هذا القطاع (الواسع والمتنوع طائفياً وقومياً) من الناس يناصرون الأسد، سوى حب العبودية الطائفية وانعدام الأخلاق ..الخ. ويريحهم من التفكير الجدي فيما يجعل من أشخاص تمردوا طويلاً على سلطة الأسد وهي في عزّها، “عبيداً”.
الآلية نفسها تشتغل هنا وهناك، تطويب “الموقف الوطني” بما يسمح باتهام الآخرين بالخيانة وإعدامهم، وتطويب “الموقف الحر” بما يسمح باتهام الآخرين بالعبودية والنزول بهم درجات عن مستوى “الأحرار”.
إذا كانت النميمة هي ملاذ الضعيف، باعتبارها تعويضاً نفسياً عن نقص فعلي، فإن ظهور النميمة السياسية وتفشيها اليوم يعود إلى حقيقة أن جميع الأطراف السوريين ضعفاء ومهزومون.
تنبع متعة النميمة من أنها توفر للنمام ملعباً خالياً ينتصر فيه بلا عناء، وتعطي النمام إمكانية أن يكون الخصم والحكم في اللحظة ذاتها. النمام يضع الخصم في الوضعية التي تلائم قبضته، ثم يتفنن في لكم خصم مكبّل بالغياب. النمام يقطع صلة الخصم بجميع القيم التي تحوز على احترام عام، ثم يجعل نفسه الملتزم بهذه القيم والمدافع عنها. يمنح نفسه الانتصارات والمجد فيما يحول الخصم الغائب إلى اسفنجة لامتصاص الهزائم تلو الهزائم. هناك متعة في أن تجد نفسك قادراً على تفريغ عدوانيتك (بصرف النظر عن مصدرها) في الخصم الذي تريد، دون أن يكون له القدرة على الدفاع. ولا يحتاج النمام لكي يمارس “لعبته” سوى إلى وسط متقبّل وضمير متساهل. ومع توفر هذين الشرطين يسهل على النمام إلحاق الهزيمة بالخصم الغائب “المُستَغيَب”.
هذا مرض شائع في المجال الشخصي وفي كل المجتمعات، ولكن الإعاقة السياسية في مجتمعنا نقلت هذا المرض الشخصي إلى مستوى عام. بات مبدأ النميمة يتحكم بمنطق سياسيين أو كتاب أو أشخاص عامين أو أشخاص يتنطحون للحديث في الشأن العام ولاحتلال موقع في صياغة الرأي العام، وصار يمكننا الحديث اليوم عن نميمة عامة أو سياسية.
تختلف النميمة السياسية عن النميمة الشخصية من حيث أنها معلنة، ولكنها تشبهها من حيث أنها تشويه للخصم لكي يتاح للنمام أن يهزم هذا الخصم ويظهر عليه أمام جمهوره، ويحتكر لنفسه البطولة والأخلاق على خلفية هزيمة ولا أخلاقية الخصم المنموم عليه. ضحية النميمة الشخصية يكون غائباً بالكامل عن واقعة النميمة، فلا هو يشهد الواقعة ولا هو يدري ماذا قيل فيها. ذلك أن النميمة الشخصية هي استغياب تام. أما في النميمة السياسية فإن الضحية تكون غائبة جزئياً، لأنها، على الأقل، تعلم ما يُنمّ عليها عبر وسائل الإعلام. وغالباً ما تنتقم الضحية لنفسها بنميمة مقابلة تعتمد المعايير نفسها.
وطالما أن النميمة تحتاج إلى وسط متقبل فإن “النمّام السياسي” يميل دائماً للحديث في وسطه، وينفر من أي وجود “غريب”، ذلك أن وجود “الغريب” يمكن أن يزعزع بديهيات النميمة التي هي الحرية في صياغة “الآخر” أو “الخصم” كما تشتهي قبضة النمام ولسانه، والحرية في تكبيل الآخر قبل البدء في سلخ جلده.
تنعكس هذه الظاهرة المرضية في الفيسبوك مثلاً بنشوء غيتوهات سياسية “صفحات” محشوة بالنميمة ضد بعضها البعض. حتى الصفحات الشخصية تصبح من لون واحد ويتباهى أصحابها بحظر “غرباء”. وتنعكس الظاهرة إياها في الصحافة ووسائل الإعلام بتحول النوافذ الإعلامية أكثر فأكثر إلى نوافذ شللية، نوافذ لها جماعتها وأبطالها و”خطها”، في آلية تأثيرات متبادلة تفضي إلى انعدام أي استعداد لفهم الموقف المغاير، وبالتالي إلى انقطاع اي تواصل جدي أو ذي قيمة بين الأطراف المتصارعة.
ولكن حين يضطر النمامون إلى مواجهة بعضهم البعض، تتعطل آلية النميمة، وتتحول المواجهة عندئذ، وهذا مفهوم، إلى لغة شتم وتحقير وعراك بالأيدي. وكأن كل نمام يريد أن يغيّب الآخر بالتخويف والقوة كي يستأنف نميمته السعيدة بغيابه، محاطاً بجمهوره الذي يؤازره ويصفق له.
وإذا كانت النميمة الشخصية تتسبب في تخريب شخصي، فإنها تسبب تخريباً عاماً حين تمارس على مستوى سياسي عام، لأنها تعمل على قطع روابط التواصل الضرورية لتماسك المجتمع، ولوجود صعيد مشترك ولو على مستوى تبادل الآراء والنقد وتشكيل الوعي العام.
Archives
January 2025
M T W T F S S
« Jul    
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031